لمحةٌ عن كتاب: ديوان الشاعر الـمهجري نَدْرة حدَّاد – شاعر العاصي

د. حسّان أحمد قمحيّة

وُلدَ نَدْرة حَدَّاد، شاعرُ العاصِي، فـي 30 تشرين الأوَّل/أكتوبر سنةَ 1881 م فـي مدينةِ حِمْص السوريَّة، وسطَ البلاد. وهو من أسرة حمصيَّة عريقة ومعروفة فـي الـمَدينة. تلقَّى عُلُومَه الأولى فـي الـمَدْرسَةِ الأرثوذكسيَّة. وقد كـان قبلَ هجرتِه شابًّا ظريفًا يعمل فـي دائـرةِ قَلَم الـمال بحِمْص، كما ذكر شقيقُه عبد الـمَسيح فـي جريدتِه «السَّائِح».

كان نَدْرة حَدَّاد طويلَ القامة، ممتلئَ الجسم، هادئَ الحركات، خافتَ الصَّوْت، خَجُولًا، طيِّب القلب، طاهرَ السَّريرة، وفيًّا، مسـتقيمًا، رقيقَ العاطفة، يغلبُه شعورُه وتخنقُه عبراتُه ويرتجـف صوتُه عندَ إلقائه قصائد الرثـاء أو الحنين.

هاجر نَدْرة حَدَّاد إلى الولايات الـمتَّحدة الأمريكيَّة فـي 26 كانون الأوَّل/ديسمبر، سنة 1897م، وهو بعمر 17 سنة؛ وأقامَ فـي مدينة نيُويُورك يتعاطى التجارَة فـي بادئ الأمر، قد طوَّف البلاد، قبلَ أن يعودَ ويستقرَّ فيها. ولكنَّه لم ينسَ مُيُولَه إلى ميدان الأدبِ والصِّحافة، فأخذ ينظمُ الشِّعر، وكان يساعد شقيقَه الأديب عبد الـمسيح حَدَّاد فـي تحريرِ جَريدة السائح الـمَهْجريَّة، حيث عملَ رئيسَ تَحْريرٍ لها لسنوات قبلَ أن ينتقلَ للعمل فـي أحدِ البُنوك. ولكن، كانت تأتـي عليه أوقاتٌ لا ينظمُ فيها الشعرَ إِلَّا لِـمامًا، حَتَّى أصبحت قصائدُهُ أَشْبهَ بالحَوْليَّات. تزوَّج نَدْرة حَدَّاد من هَدْبا حدَّاد، وأَنْجَبَ منها وليَم ورُوبرت وجوزيت.

مَنْ يقرأ شعرَ نَدْرة حَدَّاد لا يشكُّ أبدًا فـي سَلامةِ طَوِيَّته، ونَقاء سَريرته، وطيب نَفْسِه، وحبِّه للآخرين، وبعدِه تمامًا عن التَّمَذْهُب الضيِّق والتعصُّب الدِّيني والنَّظرة الحسيرة. لقد برهنَ فـي شعرِه وفـي مجرياتِ حياته أنَّه كانَ رحبَ الصدر، واسِعَ الأفق، وَدُودًا يَسِرًا، لا تلمحُ فـي خطابه نبرةَ حِقْدٍ أو صوت ضَغينة. وقد أحبَّه كلُّ من كان حولَه، وأشادوا بأخلاقه وحُسْن معاملته وصفاء نفسِه. وفـي هذا الصَّدد يقول مِيخائيل نعيمَة عنه: كان ندرة حدَّاد “متدفِّقَ العاطفة، رقيقَها، بسيط العِبارة رَشيقها، يكرهُ التكلُّفَ والتصنُّع، وتأبى نفسُه العزيزة التملُّقَ والتسكُّع، فيُطلِق الشعرَ طاهِرًا من الحَذْلقة والبَهْرجَة، حاملًا عُصارةً صافيَة من أحاسيسِه الصادقة وأفكارِه الهادِئة، فلا هو بالغاضِب النَّاقِم، ولا هو بالثائِر الهادِم. كما كان شاعرًا عفيفَ اللِّسان، حيَّ الوجدان، نقيَّ القلب، وَديعَ النَّفْس، صادقَ النَّبْض والنَّبْرة، حيِّيَ الوَجْنَتَيْن، سِخِيَّ الكَفِّ والعَيْن”.

يعدُّ ندرة حدَّاد أحدَ الأعضاء البارزين الـمؤسِّسين للرابطة القلميَّة التي رأت النورَ فـي نيويورك سنة 1920 م وانفرطَ عقدُها سنة 1931 م، مع أنَّ فكرةَ تأسيسها تعود إلى عام 1916 م مثلما يذكر بعضُ الـمهتمِّين بالأدب الـمَهْجري. بل كان نَجْمًا من نُجُومها، وشاعرًا من أَلْـمع شُعَرائها.

تُوفّـي ندرة حدَّاد مساءَ يوم السبت 27 أيَّار من سنة 1950 م، وكان ذلك فجأةً خلال حَفْلة عرس بعد أن أنشدَ فيها شعرَ التَّهانـي، حيث ألقى قصيدتَه الأخيرة «آمنتُ بالحبّ»، وشعرَ بعدها بضيقٍ فـي التنفُّس ألزمَه الجلوسَ ليُفارقَ الحياةَ بعدَ ذلك بوقتٍ قصير جدًّا تاركًا وراءَه سيرةً حسنة ونِتاجًا شعريًا لا يَمُوت.

أصدر نَدْرة حدَّاد ديوان الوحيد «أَوْراق الخَريف» سَنةَ 1941 م، أي قبلَ وفاته بنحو 9 سنوات، فهو بلا شكٍّ نظمَ الـمَزيدَ من القصائد التي لم يحتوِ عليها ذلك الديوان. ولهذا، أخذتُ أبحثُ عمَّا نَظَمه الشاعرُ ولم يَرِدْ فـي ديوانِه الوحيد السابق الذِّكْر، وعثرتُ على الكثير من القصائد الجديدة. وكان هَدفـي من ذلك أن أخرجَ بما أستطيعُ أن أصلَ إليه من أعماله الكاملة تحتَ عنوان «ديوان نَدْرة حدَّاد»، لاسيَّما وأنَّ ديوانَه الوحيد غيرُ موجودٍ فـي الأَسْواق أيضًا، ولا فـي الـمَواقِع الإلكترونيَّة، ويقتصر وجودُه على بعضِ الـمَكْتبات الحُكوميَّة العامَّة والخاصَّة.

عنـدما أخـذتُ فـي تَرْتيبِ قَوافـي قصـائدِ الشاعر، اعتمدتُ في ذلك على أَكْثرِ الأَقْوالِ تَداوُلًا، حيث أخذتُ بعينِ الاعتبار الترتيبَ حسب الرويِّ الـمُتَّفق عليه فـي القَوافـي، كإهمالِ ألفِ الإِطْلاق وهاء الوَصْل واليَاء الـمُجرَّدة … وما إلى ذلك. وعِنْدما يتَّفق الرويُّ بين القَصائِد، يكون تَرتيبُ حروفِ الرويّ بَدْءًا مِنَ السَّاكِن فالـمَفْتوح فالـمَضْموم فالـمَكْسُور. وعندَ اتِّفاق القَصائِد فـي حرف الرويِّ وحركتِه، اعتمدتُ على الحرفِ السَّابِق للرويِّ أو الرِّدْف؛ فإذا كان حرفًا ليِّنًا أخذتُ به أيضًا، وكذلك على حرفِ التَّأْسيس. وعندما كان شأنُ الرويِّ يتَّفق فـي كلِّ ذلك فـي أكثر من قَصِيدَة، ألجأُ إلى الترتيبِ بحَسَب البحُور، حيث كان الترتيبُ كما يلي: الطويل، فالـمَديد، فالبَسيط، فالكامِل، فالوافِر، فالهَزَج، فالرَّجَز، فالرَّمَل، فالسَّريع، فالـمُنْسَرِح، فالخَفيف، فالـمُضارَع، فالـمُقْتَضب، فالـمُجْتَثّ، فالـمُتَقارب، فالـمُتَدارَك (بصرفِ النظر أكانَ البحرُ تامًا أَمْ مَجْزوءًا أم مَشْطورًا … إلخ)، مع الإشارة إلى أنَّ هذه البُحورَ لم يَكْتب عليها الشاعرُ جميعًا. وحينما يتَّفق الرويُّ والبحر أَضعُ القصائدَ الأطول فالأَقْصر. ولكن، واجهتني مشكلةُ بعضَ القصائد التي فيها تَعدُّدٌ للقَوافـي، وهي قليلةٌ عندَ الشاعر، وهنا أخذتُ بقافية الأبيات الأولى، بصرف النظرِ عن قوافـي بقيَّة القصيدة. كما ذكرتُ أوزانَ بحور القصائِد جميعها بجانب عنوان كلِّ قصيدة.

هناك وِقْفاتٌ لابدّ منها مع شعر ندرة حدَّاد؛ ومن تلك الوقفاتِ وقفةٌ جميلة مع مَنْطقِه الإنسانـي الرَّاقي وروحِه النبيلة ونفسِه السَّامية؛ فها هو يُعلنها صافيةً نقيَّة أنَّه لا يردُّ الصَّاعَ صاعين إلى من يبادره بالأذى، ولا يطالع أحدًا بسوء أو ضرر، فيَقول:

أَنا راضٍ بالعَصا يا أَيُّها الحامِلُ رُمْحَكْ
وَسَأَرْضَى خُبْزَكَ الأَسْوَدَ فِـي الحُبِّ وَمِلْحَكْ
وَسَأَنْسَى جُرْحَ قَلْبِي كُلَّما شاهَدْتُ جُرْحَكْ
وأَرى لَيْلَكَ لَيْلـي، وَأَرى صُبْحِيَ صُبْحَكْ
وإذا أَخْطأتَ نَحْوي، فأَنا الطالِبُ صَفْحَكْ

والشاعرُ لا يَفْتأُ يَدْعو إلى الـمَحبَّة والوداد، والتآلُف والتَّصافـي، مُسْتندًا فـي ذلك إلى إنسانيَّته الوارِفة وسَريرتِه النقيَّة:

ما أَجْمَلَ الدُّنْيَا لَوَ انَّ بُيُوتَهاتُبْنَى بِلا عُمَدٍ وَلا أَطْنابِ
تُبْنَى مِنَ الحُبِّ الذي لا يَشْتَـكيأَصْحَابُهُ مِنْ مالِكٍ أَوْ جابـي
الحُبُّ دينُ اللهِ، فَلْيَكُ دينُنافـي كُلِّ كارِثَةٍ وَكُلِّ مُصابِ
فالبَيْتُ، إِنْ نَأَتِ الـمَحَبَّةُ ساعَةً،عَنْهُ، غَدَا بَيْتًا بِلا أَبْوَابِ

وانظرْ إليه وهو يخاطِب من حَولَهُ فيقول:

لا تَسْأَلُونـي مَنْ حَبيبي بَيْنَكُمْفَجَميعُكُمْ، إِنْ تَسْأَلُوا، أَحْبَابـي

وها هو يَدعو مجدَّدًا إلى الحبِّ، ويجعله فوقَ كل مال وجاه، فيقول فـي تهنئة عروسَيْن بزَواجهما:

عِيشَا نَديمَيْنِ مَعًاصَافَـى الزَّمانِ أَوْ جَمَحْ
سِيرَا بِدَرْبِ الحُبِّ إِنَّالحُبَّ مِنْ أَسْمَى الـمِنَحْ
أَسْمَى مِنَ الـمالِ لَدَىالعَاقِلِ هَذا إِنْ يُتَحْ

وهو، لولا الحبُّ، لـما لبَّى دَعواتِ التَّهْنئة أو الحضُور فـي الـمناسبات:

أَنا لَوْلا الحُبُّ وَالحُبْــبُ إِذا يَدْعُو يُلِحُّ
لم أَكُنْ بَيْنَكُمْ وَالقَلْــبُ مَجْرُوحٌ يَسُحُّ

ورغمَ كلِّ هذا الحبُّ الذي يحمله الشاعرُ فـي نفسه، ويريده للناس، لكنَّه لم يجدْه بينهم؛ وها هو فـي أبياتِه هذه يشكو ذلك، ويحزُّ فـي نفسِه ألَّا يرى ما يريد إلَّا بينَ غير البَشَر:

فَتَّشْتُ فـي النَّاسِ على ضائِعٍعَرَفْتُهُ بالسَّمْعِ لا بالنَّظَرْ
يَدْعُونَهُ الحُبُّ، وكَمْ جاهِلٍمِـثْـلـي يَـظُـنُّ الحُـبَّ بـَيْنَ البَـشَـرْ!
فَتَّشْتُ عَنْهُ طُولَ عُمْري فَلَمْأَجِدْ لَهُ فـي النَّاسِ أَدْنَى أَثَرْ
فَرُحْتُ نَحْوَ الغابِ حَيْثُ الظِّباتَرْعَى، وحَيْثُ الطَّيْرُ تَعْلُو الشَّجَرْ
أَنْشُدُ ما فـي النَّاسِ قَدْ فاتَنيكَعاشِقٍ يَنْشُدُ خِلًّا هَجَرْ
لا حَـذِرًا أَمْـشـي فَـإنِّـي أَرَىمِنْ صُحْبَةِ الإِنْسانِ كُلَّ الحَذَرْ
لا أَتَّقي أَخْطارَها عالِـمًابأَنَّ حَيْثُ النَّاسُ حَيْثُ الخَطَرْ
فَجُلْتُ فيما بَيْنَها مُدَّةًعَرَفْتُ ما قَدْ كانَ عَنِّي اسْتَتَرْ
الحُبُّ فـي البُهْمِ جَلِيًّا يُرَىوالحُـبُّ فِـيـنـا لا يَـراهُ الـبَـصَـرْ
فَـقُـلْـتُ فـي نَـفْـسي: أَلَا لَـيْـتَـنـاكالنَّمْلِ أَوْ كالطَّيْرِ أو كالبَقَرْ
فَـبِـئْـسَ عَـيْـشُ الـمَـرْءِ فــي قَـصْـرِهِإِنْ كانَ خَيْرًا مِنْهُ سُكْنَى الحُفَرْ

وحُقَّ بعدَ هذا وذاك أن يقولَ الدُّكْتور عيسَى النَّاعُوري فـي هذا الشاعر: “حُبٌّ كبير وألم كبير، يَنْبعان من قلبٍ كبير، تلك هي خُلاصةُ شعرِ نَدْرة حدَّاد الـمَجْموع بين دَفَّتي ديوانِه «أوراق الخريف»”.

لقد اختارَ ندرة حدَّاد لشعرِه مَجْزوءات البحور وقِصارَها؛ وغلبَ عليه طابعُ الوصفِ والتأمُّل؛ وبثَّ فيه أمانيه وخَواطرَه ومشاعرَه، وأَلْبَسَ كثيرًا منه لَبُوسَ التفَكُّر والحكمَة والتَّساؤل والدعوة إلى الحبِّ والسَّلام؛ وتناولَ مُعْظَمَ أغراضِه وموضوعاتِه.

ففـي وصيَّةٍ يُسْديها لابنه، يحثُّه على العَطاءِ وأن يكونَ مَنْبعًا للخيرِ والـمَعْروف، فيَقول:

كُنْ حَكيمًا فَكِرامُ النْــنَاسِ عاشُوا حُكَماءَ
كُنْ دَواءً فـي الوَرَى إِيْــيَاكَ أَنْ تَغْدوَ داءَ
اِجْمَعِ الـمالَ إِذا اسْطَعْــتَ، وَلا تَنْسَ العَطاءَ

ويدعو الشاعرُ إلى الفَضيلَة فيَقول:

وَفـي الدُّنْيَا دُرُوبٌ لَيْسَ تُحْصَـىوما مِثْلُ التُّقَى لِلْمَرْءِ دَرْبُ

وهذه وقفةٌ مع نظرةِ الشاعرِ للـمَوْت وما وَراءَه،فهو لا يَخْشاه، بل يرى فيه نِعْمةً من نِعَم الله، إنَّه فاتحةُ الخلُود:

إِنَّ الحَياةَ مَعارِكٌ، وَلهافـي كُلِّ يَوْمٍ بَيْنَنا وَثْبُ
وَحُرُوبُها مَوْصُولَةٌ، فإِذاعَصَفَتْ بِنا حَرْبٌ بَدَتْ حَرْبُ
فَعَلامَ نَخْشَى فَقْدَها وَلَنابَعْدَ الحَيَاةِ الـمُرَّةِ الغَلْبُ
وَالـمَوْتُ مِنْ نِعَمِ الإلَهِ، فَكَمْقَنِطٍ نَجا وَفِراشُهُ التُّرْبُ!

ويَقول:

عَلِّمْ صِغارَكَ أَنْ يَعيشُوافـي الحَياةِ بِلا قُيُودِ
وَانْهَضْ بِهِمْ، لا تَنْسَ صُحْــبَةَ ذلكَ الوَطَنِ الشَّهيدِ
عَلِّمْهُمُ أَلَّا يَخافُواالـمَوْتَ فـي سُبُلِ الصُّعُودِ
فَالـمَهْدُ فاتِحَةُ الرَّدَىوَاللَّحْدُ فاتِحَةُ الخُلُودِ

هناك من يَتوقَّى ذكرَ الـمَوْت وما يتعلَّق به من أشياء تلازمه، لكنَّ الشاعرَ لا يعبأ بكلِّ ذلك، بـل يدعو مَنْ حـولَه إلى أن يُناجوه بعدَ موته، وألَّا يحزنوا لفِراقِه، فهو راضٍ به مقبلٌ عليه:

وَإِذا شِئْتُمْ مُناجاتـي اجْلِسُواحَوْلَ قَبْري ساعةً عِنْدَ الـمَغيبْ
لا تَـنُـوحُـوا لِـفِـراقـي حَـسْـرَةًأَنا مَنْ يَكْرَهُ أَصْوَاتَ النَّحيبْ
لا تَظَنُّوا القَبْرَ فيهِ غُرْبَةٌلَيْسَ مَنْ فـي صُحْبَةِ القَبْرِ غَريبْ
عِشْتُ فـي الدُّنْيَا زَمانًا لم أَجِدْأَحَدًا فـي النَّاسِ أَدْعُوه قَريبْ

كيف لا؟ وهو يرى أنَّ الـمَوْتَ انتصار، انتصارٌ للروح على الجسد، وللخُلود على العُبور، وللشَّقاء على الراحة والهدوء:

عَجِبْتُ لِباكٍ قَدْ تَناسَى مَصيرَهُفَلَوْ يَذْكُرُ الباكي لَعَدَّ الرَّدَى نَصْـرا

ويؤمِنُ ندرة حدَّاد بالبعث والنُّشُور، وبأنَّ ما تقدِّمه فـي الحياة محفوظٌ فـي اللوح عند ربِّ السماء:

هُنا يَرْقُدُ الشَّاعِرُهَنيئًا لَهُ مِنْ رُقادْ
هُنا قَبْرُهُ الفاخِرُوَلا قُبَّةٌ أَوْ عِمادْ
***
هَنِيئًا لَهُ قَدْ عَبَرْإلـى الضِّفَّةِ الثَّانِيَةْ
هُناكَ اللِّقا الـمُنْتَظَرْلِذي الفِكْرَةِ العالِيَةْ
***
هَنِيئًا لِذا الـمَضْجَعِفَفيهِ شُعُورٌ حُجِبْ
أَنَـفْـسِـي! تَـعـالـي اسْـمَـعـيعلـى اللَّوْحِ ما قَدْ كُتِبْ

والشاعرُ زاهدٌ متواضِع، لا يحبُّ الـمديحَ والإطراء، ولا يطيب له ذلك:

يا غُصْنُ إِنْ تُنْسَبْ إِلَـيْــيَ فَأَنْتَ فـي الأَشْجارِ خاسِرْ
خَدَعُوكَ بِاسْمي مِثْلَماخَدَعَتْهُمُ مِنِّي الظَّوَاهِرْ
ما كُنْتُ مِنْ أَهْل الصَّلاحِ كَما دُعِيتُ وَلا بِطاهِرْ
أَنا لَسْتُ مِنْ أَهْلِ الـمَكارِمِ وَالـمَحامِدِ وَالـمَآثِرْ
أَنا مِثْلُ باقي النَّاسِ جَبْــبّارٌ عَنِيدٌ غَيْرُ جابِرْ

أمَّا الحنينُ، فللشاعِر وقفة شامخة معه، فله شغفٌ إلى بلادِه لا يُردُّ، وشوقٌ إلى مدينتِه حمص لا يُقاس؛ وفـي ذلك يَقول:

خُذُونـي إلـى حَيْث يَشْدُو الهَزارْوتَسْمَعُ أُذْنـي حَفيفَ الشَّجَرْ
وَحَيْثُ أَرَى الشَّمْسَ طُولَ النَّهارْويَسْطَعُ لَيْلًا عَلَـيَّ القَمَرْ
***
خُذُونـي ولَوْ مَرَّةً فـي الزَّمَنْإِلـى نَهْرِ «أُورنتَ» ذاكَ الجَميلْ
لِأَنْفي بِمَرْآهُ، ذاكَ الحَسَنْ،هُمُومًا دَهَتْني زَمانًا طَويلْ
***
خُـذُونـي لأَقْـضـي بَـقِـيَّـةَ عُـمْـريبِهِ بَيْنَ ميماسِهِ والدُّوَيْرْ
لَعَلِّـي أَنْسَى مَصائِبَ دَهْريإِذا ما أَتَيْتُ جِنانَ القُصَيْرْ
***
خُـذُونـي إلـى أَرْضِ حِمْصٍ صِحابـيفإِنِّـي بِها لا أَزالُ الوَلُوعْ
وَقُولوا إِذا مِتُّ دُونَ إِيابِ:بَرَاهُ الحَنينُ وذَرْفُ الدُّمُوعْ

لا تَفْتأ مدينتُه تعنُّ على باله، وتُغازِل خاطرَه، فيرسل إليها نفحاتٍ من روحه ونسماتٍ من أشواقه العارِمة، متمنِّيًا أن يعودَ إليها من جديد ويعيشَ فـي أكنافها:

يا حِمْصُ ما أَحْلَـى زَمْانَكِ إِنَّهُقَدْ كانَ لـي واللهِ خَيْرَ زَمانِ
إِنِّـي هَجَرْتُكِ هَجْرَ طِفْلٍ لا يَعِيما الأُمُّ أَوْ ما الفَّرْقُ فـي الأَحْضانِ
أَبْدَلْتُ صافِيَةَ الأَديمِ بِضِدِّهاوَحَمائِمَ الـميماسِ بالعُقْبَانِ
فَكَأَنَّ رَسْمَكِ إِذْ يَبينُ لِـمُقْلَتيرَسْمُ الحَبيبةِ فـي يَدِ الوَلْهانِ
لَوْ جادَ دَهْري بالرُّجُوعِ لَكانَ لـيبِالقُرْبِ مِنْ عاصيكِ عُمْرٌ ثانِ

أمَّا الطبيعةُ فالوقفةُ معها طويلة، فلقد كان ندرة حدَّاد مفتونًا بها، مؤمنًا بمدى جمالها، يسحرُه التأمُّلُ فيها، ويتمنَّى أن يعيشَ دومًا فـي أكنافها، وأن ينهلَ من صَفائها وبراءتها وعُذْريَّتها. ولذلك، فقد أمعنَ في وصفها، مثل عددٍ من شعراء الـمَهجر. وكان لغتُه فـي ذلك يَسِرة سهلة الوصول والفهم، فلم يتقعَّرْ فـي ألفاظه ولم يختر غريبَها.

يطيلُ الشاعرُ النظرَ أمامَ زهرةٍ لفتت انتباهَه، فيطيب له الحديثُ إليها، وينسج في حضورِها بعضًا من قصَّة حياته ونظرتِه للكون والإِنْسان؛ ولا يُخْفي من وراء ذلك بعضَ الضياعَ والتشتُّت اللذين يَعْصِفان به:

يا زَهْرَةً لَعِبَتْ بِهاأَيْدِي الزَّمانِ القاسِيَة
ما أَنْتِ وَحْدَكِ يا جَميــلةُ بَعْدَ عِزَّك ذاوِيَةْ
إنِّـي غَبَطْتُكِ بالذُّبُوـل كَما غَبَطْتُكِ زاهِيَة
قَدْ أَطْرَبَتْني الطَّيْرُ نائِحَةً عَلَيْكِ وشادِيَةْ
فَسَتَرْجَعينَ، وإِنْ ذَبُلْــتِ، مَعَ الطَّبيعَةِ نامِيَةْ
كَسَبيكَةِ العُقْيَانِ تُصْــهَرُ، ثُمَّ تَرْجِعُ صافِيَةْ
أَمَّا أَنا ما زِلْتُ أَجْــهَل ما يَحِلُّ غَدًا بِيَهْ
لا العَقْلُ أَرْشَدَنـي وَلاكُتُبُ الدِّيَانَةِ كافِيَةْ

يجلسُ الشاعرُ فـي لحظاتٍ تأمُّل، بَعيدًا عن ضـجيج الحضـارةِ الأمريكيَّة الصاخبة مـن حولِه، فيُخاطب الروضَ خِطابَ الـمُحبِّ الوالِه، ويُناجيه مناجاةَ الـمُتشوِّق الهائِم؛ ويُطيل النظرَ فـي تفاصيله، ويجد أنسَه فيه، ولا ينسى أن يشكو إليه ما يعتلجُ فـي نفسه من أنين وألم:

بَيْني وَبَيْنَ الرَّوْضِ حُـبـْـبٌ لا يَزولُ ولا يَبينْ
قَدْ كانَ لـي الخِلَّ الأمَيـنَ إذا جَفا الخلُّ الأَمينْ
آَتيهِ مَعْصوبَ الجَبيــنِ فَأَنْثَني طَلْقَ الجَبينْ
وَلـَّى الخَريفُ فزُرْتُهُوَزِيارَتـي دَيْنٌ وَدِينْ
فبَدا أَمامي خاليًامِـمَّا يُشَمُّ وَما يَبينْ
لا نَسْمَةٌ، لا خُضْـرَةٌ،لا زَهْرَةٌ، لا يَاسمَينْ
إِلَّا هُناكَ «وُرَيْقَةٌ»تَحْكي بصُفْرَتِها الطَّعينْ
خاطَبْتُها وخِطابُ مِثْــلي دَمْعَةُ الـمُتَوَجِّعينْ
***
بِنْتَ الغُصونِ أَراكِ وَحْـدَكِ لا رَفيقَ وَلا خَدينْ
أَكذا اشْتَهَيْتِ فنِلْتِ أَمْقَدْ نِلْتِ ما لا تَشْتَهين؟
أَمْ رُمْتِ مِثْلَ النَّاسِ فـيدُنْيَا الشَّقا طولَ السِّنين؟
ماذا اسْتَفَدِتْ مِنَ البَقاء أَلَسْتِ أَشْبهَ بالسَّجينْ؟
ماذا رَبَحْتِ سِوَى التذَكْــكُرِ وَالتَّشَوُّقِ وَالحَنينْ؟
ما الحُزْنُ مِنْ طَبْعِ الرِّياض، فكيفَ تَحْكينَ الحَزينْ؟
قَدْ كانَ يُرْقِصُكِ النَّسيــمُ فَصِـرْتِ مِنْهُ تَرْجُفينْ

ومن شعره التأمُّلـي قولُه مخاطبًا نفسه، التي كثيرًا ما خاطبها وبثَّ إليها ما يساوِرُه من شُكوكٍ وآمال وآلام:

يا نَفْسُ لَيْسَ النَّاسُ إلْــلَا تائِهِينَ بِبادِيَةْ
مُتَفَرِّقينَ مَضَوْا، فَكُلْــلٌ مِنْهُمْ فـي ناحِيَةْ
هذا فَتًى ذو هِمَّةٍيُدْنِـي الأَمانـي القاصِيَةْ
هَذا يَلِذُّ لَهُ الـمَسيــرُ هَوًى وَراءَ الغانِيَةْ
هذا تَطيبُ لَهُ السُّهُول، وذَاكَ يَهْوَى الرَّابِيَةْ
وَسَيَنْتَهُونَ كَما انْتَهَى الشـْـشُعَراءُ عِنْدَ القافِيَةْ

وهو فـي مَعْرضِ تأمُّله يعودُ فيكرِّر استعدادَه للموت، وترحيبَه به؛ ويدعو إلى الوئام والألفة، وترك التَّنازُع والخِصام:

يا نَفْسُ ما لَكِ تَنْفُريــنَ لَدَى افْتِكارِكِ بالنِّهايَةْ؟
أَجَهِلْتِ أَنَّ حَيَاتَنافـي الكَوْنِ أَشْبَهُ بِالرِّوايَةْ؟
أَجْلـَى مَشاهِدِها عِداءٌ فـي البَسيطَةِ أَوْ جِنايَةْ
وَالسِّلْمُ وَهْوَ أَحَبُّهاما بانَ إِلَّا بَعْدَ غايَةْ
أَفَتُعْرضينَ عَنِ الحَقيــقَةِ بَعْدَ تَمْثيلِ الغِوَايَةْ؟
إِنَّ التي تَخْشَيْنَ قُرْبَ وُصولِها بِنْتُ البِدايَةْ
فَاسْتَقْبِليها غَيْرَ خائِفَةٍ فَما مِنْها وِقايَةُ
فَلَعَلَّ دَوْرَ الحُبِّ يَظْـهَرُ بَعْدَ أَدْوارِ السِّعايَةْ

وتخالطُ الحكمةُ فلسفةَ الشاعر، فهي كثيرةُ الوُرودِ فـي شعره، تأتي على شكل نصائح يُسْديها للآخرين أحيانًا، أو سِياق قصائد أخرى:

الوَرْدُ فـي كُرْسِيِّ أَغْصانِهِكَالـمَلْكِ وَالأَوْراقُ شِبْهُ الخَفيرْ
تَرُدُّ عَنْهُ الرِّيحَ، فـي عَصْفِها،ولَفْحَةَ الشَّمْسِ وَحَرَّ الهَجيرْ

ويرى الشاعرُ أَنْ ليسَ كلُّ لقاءٍ يبعث الحبَّ، فالحبُّ قد ينطلق أُوارهُ بالابتعاد وينهار باللقاء:

فَقَدْ يَنْهارُ حُبٌّ فـي التَّلاقِيوَقَدْ يَقْوَى وَإِنْ سَتَرَتْهُ حُجْبُ

يلبِّي ندرة حدَّاد دعوةَ من يحبُّ، وليس للمُحبِّين إِلَّا أن يفعلوا ذلك؛ فالأماكن تجملُ بلقاء الـمُتَشاوِقين واجتماع الـمُتَآلفين:

دَعانـي مَنْ أُحِبُّ، وَكُلُّ نَفْسٍتُلَبِّي، إِنْ دَعاها، مَنْ تُحِبُّ
وَأَجْمَلُ مَنْظَرٍ فـي الكَوْنِ رَوْضٌتَلاقَى عِنْدَهُ صَبٌّ وَصَبُّ
أَرَى حِزْبًا يَسُودُ الحُبُّ فِيهِوَقَلَّ وُجُودُ حِزْبٍ فيهِ حُبُّ

وتختلطُ الحكمةُ لدى الشاعر بالزُّهْد، فهو لا يهتمُّ لما أَفْرزته الحضارةُ الحديثة والتقانةُ الـمتقدِّمة. إنَّ عيشًا هادئًا بلا ضَجيج، ومَأْكلًا خَفيفًا بسيطًا بلا أَرَق ولا هموم، ومأوًى عاديًّا متواضعًا، كلُّ ذلك هو من أَجلِّ أُمْنِياته:

وَهَبْ ناجَيْتَ أَرْوَاحًا تَوارَتْفَأَدْرَكَ كُلُّ إِنْسانٍ مَقَرَّهْ
فَلَسْتَ بِزائٍدٍ فـي الأَرْضَ شِبْرًاوَلَسْتَ بِزائِدٍ فـي التُّرْبِ ذَرَّةْ
وَلَسْتَ بِمُنْقِصٍ، ما عِشْتَ دَهْرًاتُفَكِّرُ، مِنْ مِيَاهِ الكَوْنِ قَطْرَة
وَلَسْتَ بكُلِّ ما أُوتِيتَ عِلْمًاتَضُمُّ إِلـى شُعُورِ الرَّأْسِ شَعْرَةْ
فَما نَفْعُ اخْتِراعٍ وَاكْتِشافٍلَنا، ونِهايَةُ الإِنْسانِ حُفْرَةْ؟
هَنِيئًا لِلأُلَـى عاشُوا قَديمًاوأَفْـضَـلُ قُـوتِـهِـمْ مـاءٌ وكِـسْـرَهْ
بِبَيْتٍ تَخْفِقُ الأَرْيَاحُ فِيهِوكُلُّ أَثاثِهِ طاسٌ وجَرَّةْ
فَفِي تِلْكَ الـمَعيشَةِ كُلُّ هَمٍّوفـي هَذي السَّعَادَةُ والـمَسَـرَّةْ

بلى، لقد كان الشاعرُ زاهدًا فـي الدُّنيا، غيرَ مَفْتونٍ بها، يطيب له أن يُعدِّدَ همومَها ويعرِّض فيها:

وَما هِيَ الدُّنْيَا، وَما نَفْعُهاوكُلُّ ما فيها مُـمِلٌّ حَقيرْ
هذا عَليلٌ لا يُرْجَّى لَهُبُرْءٌ، وذا مُنْذُ صِباهُ ضَريرْ
وَذا علـى أَمْوالِهِ خائِفٌوَذاك لا يَمْلِكُ شَرْوَى نَقيرْ
وَذي فَتاةٌ خانَها دَهْرُها،فـي إِلْفِها، تَبْكي بِدَمْعٍ غَزيرْ
وتِلْكَ أُمٌّ فـي اللَّيَالـي غَدَتْسَهْرانَةً تَحْنو على ابنٍ صَغيرْ
إِنْ نامَ نامَتْ، إِنَّما خِلْسَةًوقَلْبُها اليَقْظانُ حَوْلَ السَّـريرْ
يَعيشُ أَغْنَى النَّاسِ فـي هَـمِّهِكَما يَعيشُ الـمُسْتَكينُ الفَقيرْ
وَكُلُّهُمْ ماضٍ إلـى قَبْرِهِالخادِمُ الـمُسْكينُ مِثْلُ الأَميرْ

لم تخلُ بعضُ قصائد ندرة حدَّاد من الأسلوبِ الخطابـي الـمباشر، سواءٌ فـي شعره الذي ألقاه فـي الـمناسبات أو غيرها. ومن ذلك قولُه:

ظَلَلْتُ أَمْشـي تائِهًا لا أَعِيحَتَّى رَأَتْ عَيْنايَ ماءَ الغَديرْ
فَمِلْتُ والإِنْسانُ مِنْ طَبْعِهِيُسَـرُّ بالـماءِ وَسَمْعِ الخَريرْ
إلـى مَكانٍ تَحْتَ صَفْصافَةٍتَبْدو لَنا كالخائِفِ الـمُسْتَجيرْ
جَلَسْتُ فَوْقَ الـمَرْجِ فـي ظِلِّهافَخِلْتُنِي فـي مَقْعَدٍ مِنْ حَريرْ
أَميلُ إِنْ مالَتْ إِذا هَزَّها،مِنْ جانِبِ الوَادي، الهَواءُ الكَثيرْ
فَدَبَّ فـي القَلْبِ حَنينٌ إلـىجَمالِ سُوريَّا العَديمِ النَّظيرْ

وهنا يتَّضحُ الأسلوبُ الـمباشر فـي النَّظْم رغم ما فـي هذه الأبياتِ من دقَّة الوصف ومنطِق الحكمة:

وَإذا مِتُّ بِأَرْضٍتُـخْـرجُ القَوْمَ الأُسُودا
تَدْفَعُ الأَبْناءَ فـي الـمَجْــدِ إِلـى الحَرْبِ جُنُودا
وإِذا مَاتَ مَنْهُمْبَطَلٌ كانَ شَهِيدا
تَبْذُلُ الـمالَ فيَغْدُولِلَّظَى الحَرْب وَقُودا
تَجْعَلُ الإِنْسانَ حُرًّاطارِحًا عَنْه القُيُودا
تُكْرِمُ العَالـِمَ حَيًّاثُمَّ تَبْكيهِ فَقيدا
تُبْغِضُ الظَّالِـمَ فـي الحُكْــمِ ولَوْ كانَ عَميدا
تُكْرِمُ الضَّيْفَ وتَرْعىلِنَزيلِيها العَهُودا
فانْدُبُونـي أَنا مَنْ يَهْــوَى على الأَرْضِ الخُلودا

ومِثْلُ ذلك قولُه:

أَنا إِنْ مِتُّ بِأَرْضٍماتَتْ الأَحْرارُ فِيها
وَقَـضَـى فـي الـذَّوْدِ عَـنْـهـاكُلُّ شَهْمٍ مِنْ بَنيها
وَرَأَيْتُمْ كُلَّ غِرٍّبَعْدَهُمْ صارَ فَقيها
وَقَليلَ الفَهْمِ وَالإِدْراكِ يَغْتابُ النَّبيها
وَذَوي الأَمْوَال وَالأَمْــلاكِ يَخْتالُونَ تِيها
وَفَقيرَ الحالِ مَنْبُوذًا ولَوْ كانَ نَزيها
وَرَئيسَ الدِّينِ طَمَّاعًا وَأُمِّيًا سَفيها
يَأْخُذُ الأَمْوالَ عَفْوًاضاحِكًا مِنْ باذِليها
فَافْرَحُوا إِنْ مِتُّ، فَالعَيْـشُ لَقَدْ كانَ كَريها

أمَّا قَصيدتُه الـمُطوَّلة «الرَّاهِبة»، فمنهم من رآها غايةً فـي الروعة ومن الفرائد فـي الدِّيوان، ومنهم مَنْ عدَّها من أضعف قصائِده فـي ديوانه «أوراق الخريف»، حيث يقول عيسى الناعوري عنها: “ونظمَ ندرة حدَّاد قصَّةً شعريَّة طويلة بعنوان «الرَّاهِبة» تقع فـي 110 أبيات بوزنٍ واحد وقَوافٍ متعدِّدة … غيرَ أنَّ الصِّياغةَ الشعريَّة فـي هذه القصيدَة الطويلة لم تكن مُوفَّقة، فقد كانت عِباراتُها رَكيكةً مُهَلْهَلة”. وهذا يدلُّ على أنَّ النقَّادَ قد لا يتَّفقون فـي الحُكْم على الشِّعر، فمثلُ هذا هو خلافٌ عميق في الرؤية وليس مجرَّد تفاوتٍ بسيط.

إذًا، هكذا كان الشاعرُ نَدْرة حدَّاد مرآةَ عصره، وصورةً للرابطة القلميَّة فـي نيويورك التي مثلَّت أدباء الـمهجر الشِّمالي خيرَ تمثيل، لكنّه تفرَّد فـي أشياء خاصَّة به. ومع أنَّه لم يخرج عن نطاق القصيدة العربيَّة خروجًا سافرًا، إِلَّا أنَّه صبغَ شعره بصبغةٍ جديدة نادى من خلالها إلى الحبِّ والسَّلام، ووقف متأمِّلًا فـي خلق الله، فعبَّر خيرَ تعبير عن جَمالِ الطبيعة وسحرها، عن خَبايا نُفُوس البشر وطَوَاياهم، فجاء شعرُه جديدَ الـمَضْمون والـمُحْتَوى، قديمَ البناء نسبيًا.

الـمرجع: ديوان الشاعر الـمهجري ندرة حدّاد (أوراق الخريف وقصائد أخرى)، استدرك عليه وقدّم له واعتنى به د. حسّان أحمد قمحية، الطبعة الأولى، دار الإرشاد، حمص، 2020 م.

أضف تعليق

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ